07 فبراير 2010

هذا الفراغ الجميل




هز رأسه ليلا عدة مرات يريد أن يفرغ دماغه مما يزحمه

من موضوعات النهار


بهذا نصحه الطبيب عندما شكى له من الأرق بالليل،

وفشل كل الوصفات البلدية


والعقاقيرية فى أن تجعله يحظى بنوم هادىء ومريح يستمتع من خلاله


بالأحلام الوردية والسعيدة

قال الطبيب:

- عليك بافراغ رأسك من المشكلات التى تتراكم عليك أثناء النهار

لم يندهش من الـجملة فهو يعرف أن هناك من يكبِّرون أدمغتهم،


 وهناك من يشترونها، إذن فلابد وأن هناك من يفرغونها

عندما استعد للنوم، شرع فى تنفيذ نصيحة الطبيب

هز رأسه ليفرغه شهق وضرب على صدره وهو يرى الكلمات والحروف

 تتسارع فى الخروج من رأسه، وتملأ عليه فراغ الحجرة،

شاهدها وهى تزيد وتتمدد..

وهى تصعد وتهبط وتتلوى، يرقد بعضها بجواره فوق السرير،

وبعضها فوق كتفيه وبين رجليه، وشعر بأنه أصبح فى فوضى

 وزحام لا يحسد عليهما، وأن الكلام لم يعد يشغل رأسه فقط..

هذا التجويف الصغير بل سائر حواسه،


فالأمر كان فى رأسه أكثر تنظيما وضغطا،

وأن جزءا كبيرا منه كان ينزوى فى العقل الباطن

فلا يزحم واقعه إلا عند اللزوم، حين استدعائه فقط.

فكر فيما يجب عمله الآن وهو يرى أرشيف رأسه مبعثرا أمامه على هذا النحو،

واستدل من حكاية العقل الباطن، وقرر أن يلم شعث هذه الكلمات والمعانى


 ويصنفها ويرتبها حزما حزما ثم يضع كل حزمة فوق الأخرى


 ويدكها تماما ثم يرصها تحت سريره،

ويعتبر أن هذا التحت هو عقله الباطن الذى يخزن فيه الزائد.

الحزمة الأولى تسارع إليها كلام كثير عن أهل الفن،

اكتشف أن عقله يدخر معلومات كثيرة عن الفنانين والفنانات،

 فلديه تتبع دقيق لحالات الزواج والطلاق والانزلاق..


معه حصر تام لما فى دولاب الملابس، وحافظة الأحذية،


وخزانة المجوهرات، هذا الحصر بالكم والكيف والسعر،

فضلا عن تدوينا كاملا لعادات الفنان بداية من الأكلة المفضلة،

واللعبة المحببة وصولا إلى اللون المنتقى لطلاء الشفاة مع الغوص فى أسرار

عمليات التجميل من نفخ وشفت وغيره،

صارت له خبرة يكتشف بها المرفوض رقابيا،

ونوع دخان الشائعات الذى بنار والذى بغير نار..

ثم حصر بعدد قضايا الآداب، إلى آخره

صرخ بفزع:

- كل هذه المعلومات تشغل رأسى عن أهل الفن وأنا غير مندمج فى هذا الأمر

على الإطلاق.. لم أسع لمعرفة أخبار الفنانين، ولم أشتر مجلة فنية فى حياتى،

فكيف وصلنى واستقر فى رأسى رغما عنى كل هذا القدر من المعلومات

غير المرغوب فيها عن فنانى بلادى، والعالم!

إلى الحزمة الثانية تسارعت كلمات مثل الكرة أجوال إحراز الهدف..

القدم الذهبية.. سعر اللاعب.. خناقات الملاعب.. حفلات الاعتزال.

خبط رأسه بيديه:

- وإذا كنت لا أفهم فى قواعد الكرة، ولست من هواتها، وليس لى نادٍ أشجعه،

وأهلل له لو أحرز هدفا أو فاز فى مباراة وحصل على الكأس مثلا.

 فكيف التقطـت ذاكرتى كل هذا الكم من الأهداف الطائشة وغير المطلوبة عن الكرة،


وما يلحق بها


استمر فى ترتيب رأسه المدلوق أمامه فيصطدم بجمل تأخذه إلى الدهشة أحيانا


وإلى الاستنكار أحيانا أخرى!


سياسة التجويع، إلغاء الدعم، أطفال حجارة، تهويد القدس، بناء المستوطنات،


ضرب جنوب لبنان، غرب سوريا والأردن، شمال مصر..


عنجهية إسرائيل، مذابح فى البوسنة والهرسك،


 تدمير العراق وأفغانستان.. تصدير الإرهاب.. مراوغة أمريكانى.. جدل عربى عقيم!


حار فى أمر رأسه وما يلتقطه من معلومات خارجة عن نطاق اهتماماته


فقرر ألا يترك للمصادفة وحدها أمر تنظيم دماغه، بل يجب أن يبحث بنفسه


عن المعلومات التى تهمه، والمعنى الذى يروق له، ويشبع طموحه وخياله


بحث عن تخصصه وهو المتخرج بامتياز فلم يجد إلا اليسير،


 وعن هواياته التى شغلت حياته حينا وحلم بتطويرها فلم يعثر إلا على


ملامح مشوشة، بحث عن منجزات بلاده فوجد نفسه غير ملم إلماما كافيا بوضعها


الاقتصادى والسياسى وما هى إلا كلمات غير مترابطة عن مشروعات لم تتم ،


وخطط لم تكتمل، كلها معلومات هشة غير واضحة الملامح.


امتد به العمل حتى الصباح ولكنه لم يشعر بحاجته إلى النوم،


فبعد أن أفرغ رأسه من غثه وسمينه إرتاح لهذا الفراغ الجميل


وارتاحت معه كل أعضاء جسده عضلاته المشدودة، وأعصابه الملتهبة،


وسكن دمه الفائر، وفى الصباح وجد نفسه مضطرا لاستقبال يومه


والقيام بالعمل الروتينى الممل الذى اعتاد عليه دون أى زيادة أو نقصان


أو تجويد أو تقصير وهنا شعر برغبة فى التمرد.. نعم لابد من التمرد


وقف حائرا للحظات وحسم الأمر لصالحه لابد أن يخرج اليوم هكذا برأس فارغ،


 وأن يمضى يوما حرا مع هذا الفراغ الممتع.. لابد من التجديد، فالتجديد يعينه على


 استقبال الأشياء بتفاؤل، وعلى استعادة هواياته الضائعة فى زحمة الحياة،


ويعينه أيضا على التركيز واستعاب ما يدور حوله من متناقضات


ربما طفت مواهبه الكامنة فى غمرة أزمة رأسه إلى بؤرة شعوره.


استعان بالله وتسلل مع الفجر على أطراف أصابعه تجاه باب الشقة،


وانطلق يستقبل خد الشمس القرمزى وهى مقبلة على الكون فى حياء البكارة،


وقبل أن تستيقظ زوجته والأولاد، فهو لا يرغب فى أن تكون بداية الامتلاء من هنا


أمام وكيل النيابة أكمل حكايته قائلا:


شعرت بسعادة غامرة وأنا أتنسم رائحة البكور، وتصحو مشاعرى مع التسلل المبهر


 للضوء رويدا رويدا، تمنيت أن يجرب كل البشر قضاء يوم برأس فارغ


فى الطريق قررت ألا أملأ رأسى إلا بما أحب، ولن أتركه يحشى بأى شئ


لا يحقق لى السعادة، قررت أن أكون سيد رأسى،


وقررت عدم الذهاب إلى عملى اليوم، وعزمت على الاستمتاع بهذا الصباح الفريد


 من نوعه على نحو غير مألوف بالنسبة لى على الأقل..

سرت على كورنيش النيل أغنى للنسيم العليل، والشمس الحانية..

بعد قليل بدأت أصوات السيارات تتزايد وتصك أذنىّ

فأسمع صداها مرة أخرى فى فضاء رأسى.

سددت أذنىّ بسدادتين وانزلقت إلى النيل استقل مركبا أتجول به فوق صفحته المتلألئة

وأتساءل أهو تبر سال بين شاطئين، أم أهلة ذائبة فى أهلة..

استمتعت حواسى بهذا الفضاء الرحب، فلا بشر، ولا سيارات، ولا لافتات.

 فقط سماء حانية ، وصفحة ماء راقصة .. غمرتنى السعادة لحين،

فدائما تأتى الرياح بما لا تشتهى السفِن.

كنت محكوما بالسويعات التى حددها لى المراكبى،

وبالمال الذى فى حافظتى.. قادتنى قدماى مستسلما إلى البيت،

وما أن رأتنى زوجتى حتى هبت فى وجهى كرشاش فى يد أحمق.

« أين كنت يا خائن يا صعلوق، لا تقل إنك كنت فى مكتبك، سألوا عليك مرتين،

وعلى البنت المعصعصة سكرتيرتك.. أين كنت تتصرمح معها يا أبو العيال »

كان كلامها حادا، يدخل إلى رأسى فيدوى فى أرجائه بقوة

 فيحدث صدى عنيفا يهز كيانى كله، ويشعرنى بصداع شديد.. شديد جدا.

جاء فى حيثيات الحكم بعد ذلك براءة صاحبنا لأن رأسَـه فارغ








هناك 5 تعليقات:

غير معرف يقول...

عزيزتى نادية

قصتك رائعة مثلك

والمغزى واضح جدا تريدين أن تقولى أننا آلات استقبال بلا وعى أو فهم أو رغبة.. وهذا انتقاد صارخ لوسائل الاعلام الذى يلح على الغث ويترك السمين
والله يا أستاذة إنها الحقيقة وصرنا بين شقى الرحى
جرب حينما تستيقظ من النوم ما هى أول كلمة تجد نفسك ترددها دون قصد
تجد جملة من غنوة ربما سمعتها قبل أن تنام من راديو الجيران
تحياتى لك استاذتى ومتعك الله بالابداع الجميل
نجوى

لـما فانوس يقول...

الرائعة (دائما) نادية..
فعلا هكذا هي الحياة، تجرنا لأشياء لا نرغبها،لا نرغب سماعها وحتى لا تهمنا ولكن تستطيع أن تملأ أفكارنا وتشغل بالنا.
سألت نفسي نفس السؤال الذي راود بطل قصتك، ما هي هواياتي؟؟؟ما هي معلوماتي الدراسية في مجال تخصصي؟؟ لم أجد سوى بقايا ذاكرة، رغم أنها ليست ذكريات قديمة!!
ثم أجد نفسي أطبق ما فعله بطل نصك، فتتملكني الرغبة أحيانا بكسر الروتين القاتل الذي نعيشه، فتريني أبحث عن أي شيء جديد ولو كان جنونيا!!
أخيرا عزيزتي الرائعة(دائما)، أشكرك على هذه القصة الجميلة البسيطة، التي استطعتي من خلالها ومن خلال كل نص كتبتيه أن تعبري عما يجول في خاطري من مشاعر و أفكار، ترتبينها بطريقة رائعة يا ناديةأغبطك عليها.
و عذرا لإطالتي بالتعليق.

نادية كيلانى يقول...

والمغزى واضح جدا تريدين أن تقولى أننا آلات استقبال بلا وعى أو فهم أو رغبة.. وهذا انتقاد صارخ لوسائل الاعلام الذى يلح على الغث ويترك السمين
***********

الأخت الفاضلة نجوى

شكرا لك ولفهمك الجيد للقصة

وفعلا هى الحقيقة عبرت عنها كما أحسها في نفسي قبل غيرى

لك الود والتحية

نادية كيلانى يقول...

ثم أجد نفسي أطبق ما فعله بطل نصك، فتتملكني الرغبة أحيانا بكسر الروتين القاتل الذي نعيشه، فتريني أبحث عن أي شيء جديد ولو كان جنونيا!!
******
الصديقة الحلوة لمى

لم تطيلي أبدا فكلامك جميل وصحيح ومشاعرنا واحدة لأننا بشر

كسر الروتين مهم جدا في الحياة

لك الود والتحية

غير معرف يقول...

تحياتي ...قصة رائعة تعالج الواقع المزري الذي نعيشه فيالوطن العربي وفي البيت العربي وفي الشارع العربي وفي المدرسة العربية وفي المقهى العربي..نعيش حياة النكد والشقاء والكلل والتعب نعيش فوضى في حياتنا لا الرجل فهم دوره في الحياة ولا المرأة ...الرجل يشتكي والمرأة تشتكي والكل يشتكون ...فوضى في حياتنا ، أين هو الرجل المثقف وأين هي المرأة المثقفة ؟ الجميع يتوجع الجميع يبكي ، الجميع يصرخ، الجميع ضجر ومل وكل وتعب ، دوران دوخة في الرأس ؟ صداع ، حياة مليئة بهموم اصطناعناها حتى أصبحت في مجالسنا وفي لقاءنا وفي فطورنا وغذائنا وفي مرحنا وحزننا ، الجميع مهموم حزين كيئب ....إن الصداع ...قصتك موحية سيدتي الفاضلة الكريمة جاءت تعكس واقع مؤلم عربي أشكرك ...أبوبكر الجزائر شرقا تحياتي .